كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ...
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم-: " قال اللَّه عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ولا يصخب. فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل إني صائم. والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند اللَّه من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بصومه، وإذا لقي ربه فرح بصومه" رواه البخاري.
معاني المفردات:
جُنة = وقاية لصاحبه يقيه من الوقوع في الآثام لمراقبته لله وهو صائم، وفي الآخرة يقي صاحبه من النار.
يرفث = قال الراغب في معنى الرفث: كلام متضمن لما يستقبح ذكره من ذكر الجماع ودواعيه كالنظرة والقبلة.
يفسق = يقع في معصية.
يصخب = يرفع الصوت بالتافه من الكلام.
سابه = شتمه أو اعتدى عليه بالقبيح من الألفاظ.
الخلوف = تغيير رائحة الفم.
المعنى:
الصوم ركن من أركان الإسلام، يستقبل المؤمن الصادق شهره منشرح الصدر، طيب النفس، مثلج الفؤاد، يحس من أعماق قلبه بنشوة الشوق إليه، والتلذذ بصيامه وقيامه في ضراعة. فمثل هذا المؤمن يصبح هواه تبعًا لدينه ولما جاء به نبي الهدي -صلى الله عليه وسلم-.
وغيره ممن استحب العمى على الهدى، تراه مستقبله منقبض الصدر، كاسف البال، مزعزع الوجدان، يحس بأن شهر الصوم يقطع عليه شهوته وملذاته، فهذا إن ادعى أنه مؤمن، فإيمانه مصطنع مزيف لا يحس صاحبه بحلاوة للإيمان في قلبه.
إن الأعمال كلها لله وحده، يثيب اللَّه عليها فاعلها: الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلم مقداره إلا اللَّه ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261] فمضاعفة الأعمال إلى أكثر من سبعمائة ضعف تقرره هذه الآية الكريمة، إلا أن اللَّه تعالى العليم بخلقه، يعلم أن من الناس من يتظاهر بالصوم، ويستر فضيحته من الناس فيتوارى عن الأنظار. من أجل ذلك استثنى اللَّه تعالى الصوم من أعمال العباد فنسبه إليه (لأن الصوم سر بين العبد وربه) ونسبة العمل إلى اللَّه تعالى دليل على أنه سبحانه يمنح الصائم ثوابًا بغير حدود وربما لا يخطر له على بال.
إن الصوم يشعر صاحبه حينما يذوق ألم الجوع، العطف على البؤساء والمعوزين، كما أنه يهذب النفس، ويرشد إلى مكارم الأخلاق، فلا يقع فيما يقع فيه الجهال من تسريح الطرف إلى ما حرم اللَّه، وفحش القول وبذئ الكلام.
والصائم الذي ينشد صحة صومه، ويرجو القبول من ربه، تستشعر جوارحه معاني الصوم، فيمسك عن الشر قبل أن يمسك عن الطعام والشراب، فالعين تصوم بغض البصر، والأذن تصوم عن القيل والقال، وفحش الكلام. ومن اعتدى عليه بشيء من ذلك فليقابل السيئة بالحسنة، وليتذكر أنه صائم لرب العالمين.
وقد اثبت الحديث الشريف: أن الصائم تجدد فرحته في الدنيا كلما أفطر بعد صيام، كما أن دعوته مستجابة عند الإفطار، ولذا يسن أن يقول: اللهم لك صمت، وبك آمنت، وعلى رزقك أفطرت، ثم يدعو لنفسه بالمغفرة.
كما أن له فرحة عند اختتام الشهر، وفرحة كبرى عند لقاء ربه كما وعده سيد المرسلين: " من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
وإذا كانت فرحة الدنيا مبشرة بالمغفرة مع أنها دار فناء وأكدار، فماذا عسى أن يكون له من الثواب عند اللَّه يوم القيامة؟ لا شك أنه عند لقاء ربه يجد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ولكنا للأسف أصبحنا في زمن هان على الناس أمر دينهم، فكثير ممن يسكنون المدن، أو يعيشون في ترف وبذخ، لا يحفلون بشهر رمضان، وتراهم يأكلون ويشربون في وضوح النهار من غير خجل ولا حياء، فهؤلاء لا يدينون بدين، ولا يحترمون تقاليد، وجل همهم أنهم يأكلون ويشربون والنار مثوى لهم.
كما أن السواد الأعظم من الصائمين، اعتادوا أن يحبطوا عملهم بالسهرات الماجنة. فيما حرم اللَّه: من تمثيل ساقط، وغناء رخيص، ورقص رقيع خليع، وشجعتهم على ذلك وسائل الإعلام المرئية والصوتية فهم يجندون في الإذاعة والتليفزيون كل ماجن وفاسق، ويخلعون عليهم ألقاب البطولة، وصنع المعجزات، وكأن المعجزات التي هي أمور خارقة للعادة والتي يؤيد بها رب العالمين رسله، أصبحت في مقدار الممثلين والمغنين والراقصات. ولو أنهم وجدوا من أولى الأمر من يضرب على أيديهم، أو يعاقب من يجهر بالفطر، لشعروا أن فرضًا إسلاميًا مقدسًا يجب عليهم أن يحترموه. ولكن الشكوى إلى اللَّه ممن أعمتهم ثقافتهم المزعومة باسم الفن، والباليه، والرقص، والفنون الشعبية، فضلوا وأضلوا وتمردوا على الإسلام بترك الصلاة والصيام، وإذاعة ما يفتن المؤمنين والمؤمنات.
ومما يؤسف له أن الحكومة تنفق على هذا الشر وتشجعه، وترصد في ميزانيتها جوائز سخية لا تعطي للعلماء ولا للمخترعين.
إن هذا الخطر ينذر بمستقبل مظلم قاتم الظلمة، عدته الانحلال، وذخيرته الاستهتار ورذائل الأعمال.
نعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا واللَّه ولي التوفيق.
المصدر: مجلة التوحيد، عدد رمضان 1417 هـ
0 التعليقات:
إرسال تعليق