فضل الصوم وأهميته[1]
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفوة خلقه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن سلك طريقهم واتبع منهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الصوم مظهر من مظاهر الدين، ودليل قاطع على القيام بأمر الله من محبة ورضًا وانقياد وخضوع تام لأوامره.
ولذلك لم يخل دين من الأديان إلا والصيام ركن من أركانه، ودعامة من دعائمه، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: "بُنِيَّ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ:..." وعدَّ منها صوم رمضان [2].
هذا الشهر المبارك أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وبدأ نزول الوحي فيه على محمد الأمين، وفيه ليلة خير من ألف شهر، ليلة فيها يفصل كل أمر عظيم، وتقدر فيها المقادير، ولا يسأل أحد مولاه سؤالًا، إلا أعطاه إياه - إذا كان لا يتعارض مع الأحكام الشرعية - ولم يَعْتَدِ في دعائه؛ لأن الله لا يحب المعتدين.
وحكمة الصيام أنه يقوي النفس والإرادة والعزيمة، وذلك أن الإنسان متى امتثل أمر الله تعالى واستطاع أن يغالب شهواته فيسيطر عليها، ويترك المشارب الحلوة والمآكل اللذيذة والمناكح، وغير ذلك مما كان مباحًا له قبل الصيام؛ امتثالًا لأمره واحتسابًا للأجر عنده، عند ذلك تتربى عنده إرادة قوية صارمة، وصار عبدًا لربه لا عبدًا لشهواته ومطامعه، واقتدر على امتلاك زمام نفسه وإرشادها وتوجيهها الوجهة الصالحة، وبذلك يتربى حلمه ويكتمل عقله، كما قال الشاعر:
وَمَا يردَعَ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنِ الهوَى مِنَ النَّاسِِ إِِلَّا فَاضِلُ العَقْلِِ كَامِلُهْ |
فليس المقصود من الصيام في الإسلام هو إتعاب النفس وتعذيبها، كما يتوهمه بعض الناس، وإنما المقصود منه تربيتها وتزكيتها وتعليمها الصبر عن الشهوات، وترويضها على الطاعات، كما روى ابن ماجة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّيَامُ نِصْفُ الصَّبْرِ"[3]، فالله غني عنّا وعن عملنا، وما كتب علينا الصيام إلا لمنفعتنا ولإعداد نفوسنا للسعادة وللتقوى وللفوز بلقاء الله تعالى وجزائه؛ حيث يقول في الحديث القدسي: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي وَأنَا أَجْزِي بِهِ"[4]، رواه البخاري، وفي الحديث الآخر قال: "يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي"[5]، رواه البخاري أيضًا، وفي حديث آخر: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيْمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ"[6]، متفق عليه.
وليست فوائد الصوم مقصورة على الفوز بلقاء الله في الآخرة فقط؛ بل إن له من الفوائد الكثيرة في الدنيا ما لا يحصى:
فمن فوائد الصيام الدنيوية: أن الذي يصوم إيمانًا واحتسابًا هل يُنتظر منه أن يأكل أموال الناس بالباطل، أو يسب أعراضهم، أو يخونهم في أماناتهم؟! هل يسهل عليه أن يراه الله على الباطل أو فعل حرام؟! كلا؛ اللهم إلا أن يغويه الشيطان في شيء يسير ثم يندم ويتوب، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 102]، فالصيام مُربٍّ للإرادة، وكابح للجماح والأهواء، قال البيضاوي: (الإمساك عما تنازع إليه النفس)[7].
ومن فوائده الدنيوية:
تذكير أولئك الذين لم يجوعوا طوال العام، بأن لهم إخوانًا فقراء؛ ليواسوهم وليعطفوا عليهم، وذلك بعد أن يذوقوا ألمه ويعرفوا لوعته وحرارته، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ إِنَّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُوعِ؛ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيع"[8]، أما الكرام الحقيقيون فإنهم لن يغفلوا عن الإحسان وعن أهله، لا في رمضان ولا في غيره، قال أبو تمام حبيب بن أوس:
إن الكرامَ إذا ما أيسروا ذكروا مَنْ كانَ يَأْلَفُهُمْ في المَوْطِنِ الخَشِنِ |
ومن فوائده الدنيوية:
المساواة في أن المسلمين يفطرون في وقت واحد ويجوعون جميعًا، إلى غير ذلك من مظاهر المساواة في الصيام، وبهذا يشعر المسلم بعزة الإسلام، فإن الاتحاد مظهر من مظاهر القوة والعزة.
ومن فوائده الدنيوية:
الصحة؛ فإن الصيام يصح الأبدان ويقويها ويعالجها من الرطوبة ويخفف الشحم الذي على القلب، وهو مضر إذا تراكم، كما روى أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "صُومُوا تَصِحُّوا"[9]، وقال الأطباء من الإفرنج: (إن صيام شهر واحد من السنة، كفيل بأن يذهب بالفضلات الميتة في البدن مدة سنة كاملة)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّومُ جُنَّةٌ"[10]، أي: يستر صاحبه ويقصيه عن الآثام والمضار والمعاصي.
وما دمنا قد استعرضنا الصيام ومنافعه وحكمه الدنيوية والأخروية، فلا بد أن نذكر أن الغيبة والنميمة وغيرهما من المعاصي قد ذكر بعض العلماء أنها مخلة بالصوم، وحُكي هذا القول عن عائشة.
وقال الإمام الأوزاعي: (إن الغيبة تفطر الصائم، وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم)، أما الإمام ابن حزم فقال: (يبطله كل معصية من متعمد لها ذاكر لصومه سواء كانت فعلا أو قولا)[11]، وقال الغزالي - فيمن يعصي الله وهو صائم -: (إنه كمن يبني بيتًا ويهدم بلدًا كاملًا)، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: "كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الجُوعُ وَالعَطَشُ"[12].
أسأل الله تعالى أن يوفقني وإياكم لخير العمل، وأن يتقبل منّا صيامنا وقيامنا، وأن يحسن خواتيمنا إنه سميع مجيب، والله أعلم، وصل اللهم على حبيبنا وقدوتنا معلم الناس الخير، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
[1] كلمة ألقيت في إحدى المساجد بتاريخ: 20/9/1375ه-.
[2] أخرجه البخاري برقم (8)، ومسلم برقم (16)، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه ابن ماجه برقم (1745)، والبيهقى فى شعب الإيمان (3/292)، رقم (3577)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال البوصيرى (1/555): هذا إسناد ضعيف، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (3581)، وفي السلسلة الضعيفة برقم (3811).
[4] أخرجه البخاري برقم (1904)، ومسلم برقم (2700)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري برقم (1984)، ومسلم برقم (1151)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري برقم (38)، ومسلم برقم (760)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] انظر: تفسير البيضاوي (1/461).
[8] أخرجه أبو داود برقم (1547)، وابن ماجه برقم (3354)، والنسائي برقم (5468)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (3002).
[9] انظر: المقاصد الحسنة (ص381)، ومجمع الزوائد (3/179). وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (3503)، وفي السلسلة الضعيفة برقم (253).
[10] جزء من حديث أخرجه البخاري برقم (1904)، ومسلم برقم (1151)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أورد هذه الأقوال ابن حجر في فتح الباري (4/104).
[12] أخرجه أحمد في المسند (2/373)، وابن ماجه برقم (1690)، والنسائي برقم (3249)، والدارمي برقم (2720)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال أحمد شاكر في تحقيق المسند برقم (8843): إسناده صحيح.
0 التعليقات:
إرسال تعليق