فوائد الصيام وحكمه العظيمة .
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين، وفقني الله وإياهم لاغتنام الخيرات، وجعلني وإياهم من المسارعين إلى الأعمال الصالحات آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أما بعد:أيها المسلمون، لقد أظلكم شهر عظيم مبارك، ألا وهو شهر رمضان، شهر الصيام والقيام، شهر العتق والغفران، شهر الصدقات والإحسان، شهر تفتح فيه أبواب الجنات وتضاعف فيه الحسنات وتقال فيه العثرات، شهر تجاب فيه الدعوات، وترفع فيه الدرجات، وتغفر فيه السيئات، شهر يجود فيه الله سبحانه على عباده بأنواع الكرامات، ويجزل فيه لأوليائه العطايات، شهر جعل الله صيامه أحد أركان الإسلام، فصامه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس بصيامه، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من صامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 39)
حرم، فاستقبلوه رحمكم الله بالفرح والسرور، والعزيمة الصادقة على صيامه وقيامه، والمسابقة فيه إلى الخيرات والمبادرة فيه إلى التوبة النصوح من سائر الذنوب والسيئات، والتناصح والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى كل خير لتفوزوا بالكرامة والأجر العظيم.
وفي الصيام فوائد كثيرة وحكم عظيمة:
منها: تطهير النفوس وتهذيبها وتزكيتها من الأخلاق السيئة كالأشر والبطر والبخل، وتعويدها للأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود والكرم ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرب لديه.
ومن فوائد الصوم: أنه يعرف العبد نفسه وحاجته، وضعفه، وفقره لربه ويذكره بعظيم نعم الله عليه، ويذكره أيضا بحاجة إخوانه الفقراء فيوجب له ذلك شكر الله سبحانه، والاستعانة بنعمه على طاعته، ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه الفوائد في قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فأوضح سبحانه
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 40)
أنه كتب علينا الصيام لنتقيه سبحانه، فدل ذلك على أن الصيام وسيلة للتقوى، والتقوى هي: طاعة الله ورسوله بفعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله؛ عن إخلاص لله عز وجل ومحبة ورغبة ورهبة، وبذلك يتقي العبد عذاب الله وغضبه، فالصيام شعبة عظيمة من شعب التقوى، ووسيلة قوية إلى التقوى في بقية شئون الدين والدنيا، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض فوائد الصوم في قوله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء . فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الصوم وجاء للصائم، وما ذاك إلا لإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والصوم يضيق تلك المجاري، ويذكر بالله وعظمته، فيضعف سلطان الشيطان، ويقوى سلطان الإيمان، وتكثر به الطاعات من المؤمن، وتقل به المعاصي.
وفي الصوم فوائد كثيرة غير ما تقدم تظهر للمتأمل من ذوي البصيرة، ومنها أنه يطهر البدن من الأخلاط الرديئة ويكسبه صحة وقوة، وقد اعترف بذلك الكثير من الأطباء
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 41)
وعالجوا به كثيرا من الأمراض. وقد ورد في فضله وفرضيته آيات وأحاديث كثيرة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ إلى أن قال الله عز وجل: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت . وفي الصحيح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن جبريل عليه السلام سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإسلام؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 42)
الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت. ثم قال: أخبرني عن الإيمان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. قال: أخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك . وهذا حديث عظيم جليل ينبغي تأمله وتعقل معانيه.
وأخرج الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار. فقال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ثم قال عليه الصلاة
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 43)
والسلام: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله. فقال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله. ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: كف عليك هذا. وأشار إلى لسانه. فقلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم؟ .
أيها المسلمون، إن الصوم عمل صالح عظيم، وثوابه جزيل، ولا سيما صوم رمضان فإنه الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعله من أسباب الفوز لديه، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، يقول الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 44)
وسلم أنه قال: إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وسلسلت الشياطين . وأخرج الترمذي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي مناد: يا باغي، الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة .
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان ويقول لهم: جاء شهر رمضان بالبركات، فمرحبا به من زائر وآت .
وأخرج ابن خزيمة عن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب الناس في آخر يوم
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 45)
من شعبان فقال: أيها الناس، إنه قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد فيه رزق المؤمن .... الحديث.
فيا معشر المسلمين اغتنموا هذا الشهر العظيم، وعظموه، رحمكم الله، بأنواع العبادة والقربات، وسارعوا فيه إلى الطاعات، هو شهر عظيم، جعله الله ميدانا لعباده يتسابقون إليه فيه بالطاعات، ويتنافسون فيه بأنواع الخيرات، فأكثروا فيه، رحمكم الله، من الصلوات والصدقات وقراءة القرآن والإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فتأسوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، واقتدوا به في مضاعفة الجود والإحسان في شهر رمضان، وأعينوا إخوانكم الفقراء على الصيام والقيام واحتسبوا أجر ذلك عند الملك العلام، واحفظوا صيامكم عما حرم الله عليكم من الأوزار
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 46)
والآثام، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ، وقال عليه الصلاة والسلام: الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق، فإن امرؤ سابه أحد فليقل: إني امرؤ صائم . وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس الصيام من الطعام والشراب، وإنما الصيام من اللغو والرفث .
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: إذا صمت، فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء .
فينبغي للصائم الإكثار من تلاوة القرآن بتدبر وتعقل، والإكثار من الصلوات والصدقات والذكر والاستغفار وسائر أنواع القربات في الليل والنهار اغتناما للزمان، ورغبة في مضاعفة الحسنات، ومرضاة لفاطر الأرض والسماوات. ويجب على كل مسلم اجتناب ما يجرح الصوم، وينقص الأجر، ويغضب الرب عز وجل من
(الجزء رقم : 15، الصفحة رقم: 47)
سائر المعاصي؛ كالتهاون بالصلاة، والبخل بالزكاة، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامى، والظلم، والسرقة، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، والغيبة، والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، والدعاوى الباطلة، والأيمان الكاذبة، وحلق اللحى وتقصيرها وإطالة الشوارب، وسماع الأغاني، وآلات الملاهي، وتبرج النساء، وعدم تستُّرهن من الرجال، والتشبه بنساء الكفرة في أزيائهن غير الساترة، وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله، وهذه المعاصي التي ذكرناها محرمة في كل زمان ومكان؛ ولكنها في رمضان أشد تحريما، وأعظم إثما لفضل الزمان وحرمته.
فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا ما نهاكم الله عنه ورسوله، واستقيموا على طاعته في رمضان وغيره، وتواصوا بذلك وتعاونوا عليه لتفوزوا بالكرامة والسعادة والعزة والنجاة في الدنيا والآخرة، والله المسئول أن يحفظنا والمسلمين جميعا من أسباب غضبه، وأن يتقبل منا جميعا صيامنا وقيامنا وأن يصلح ولاة أمر المسلمين، وأن ينصر بهم دينه، ويخذل بهم أعداءه، وأن يوفق الجميع للفقه في الدين، والثبات عليه، والحكم به، والتحاكم إليه في كل شيء، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
0 التعليقات:
إرسال تعليق